ب مم وب بيسي

مم /ثالثة 3 ثانوي مدونة محدودة /كل الرياضيات تفاضل وتكامل وحساب مثلثات2ثانوي ترم أول وأحيانا ثاني /التجويد /من كتب التراث الروائع /فيزياء ثاني2 ثانوي.ت2. /كتاب الرحيق المختوم /مدونة تعليمية محدودة رائعة /صفائي /الكشكول الابيض/ثاني ثانوي لغة عربية ترم اول يليه ترم ثاني ومعه 3ث /الحاسب الآلي)2ث /مدونة الأميرة الصغيرة أسماء صلاح التعليمية 3ث /مدونة السنن الكبري للنسائي والنهاية لابن كثير /نهاية العالم /بيت المعرفة العامة /رياضيات بحتة وتطبيقية2 ثانوي ترم ثاني /احياء ثاني ثانوي ترم أول /عبدالواحد2ث.ت1و... /مدونة سورة التوبة /مدونة الجامعة المانعة لأحكام الطلاق حسب سورة الطلاق7/5هـ /الثالث الثانوي القسم الأدبي والعلمي /المكتبة التعليمية 3 ثانوي /كشكول /نهاية البداية /مدونة كل روابط المنعطف التعليمي للمرحلة الثانوية /الديوان الشامل لأحكام الطلاق /الاستقامة اا. /المدونة التعليمية المساعدة /اللهم أبي وأمي ومن مات من أهلي /الطلاق المختلف عليه /الجغرافيا والجيولوجيا ثانية ثانوي /الهندسة بأفرعها /لغة انجليزية2ث.ت1. /مناهج غابت عن الأنظار. /ترم ثاني الثاني الثانوي علمي ورياضة وادبي /المنهج في الطلاق /عبد الواحد2ث- ت1. /حورية /المصحف ورد ج /روابط المواقع التعليمية ثانوي غام /منعطف التفوق التعليمي لكل مراحل الثانوي العام /لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ /فيزياء 2 ثاني ثانوي.ت1. /سنن النكاح والزواج /النخبة في مقررات2ث,ترم أول عام2017-2018 /مدونة المدونات /فلسفة.منطق.علم نفس.اجتماع 2ث ترم اول /الملخص المفيد ثاني ثانوي ترم أول /السيرة النبوية /اعجاز الخالق /فيمن خلق /ترجمة المقالات /الحائرون الملتاعون هلموا /النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق. /أصول الفقه الاسلامي وضوابطه /الأم)منهج ثاني ثانوي علمي رياضة وعلوم /وصف الجنة والحور العين اللهم أدخلنا الجنة ومتاعها /روابط مناهج تعليمية ثاني ثانوي كل الأقسام /البداية والنهاية للحافظ بن كثبر /روابط مواقع تعليمية بالمذكرات /دين الله الحق /مدونة الإختصارات / /الفيزياء الثالث الثانوي روابط /علم المناعة والحساسية /طرزان /مدونة المدونات /الأمراض الخطرة والوقاية منها /الخلاصة الحثيثة في الفيزياء /تفوق وانطلق للعلا /الترم الثاني ثاني ثانوي كل مواد 2ث /الاستقامة أول /تكوير الشمس /كيمياء2 ثاني ثانوي ت1. /مدونة أسماء صلاح التعليمية 3ث /مكتبة روابط ثاني ثانوي.ت1. /ثاني ثانوي لغة عربية /ميكانيكا واستاتيكا 2ث ترم اول /اللغة الفرنسية 2ثانوي /مدونة مصنفات الموسوعة الشاملة فهرسة /التاريخ 2ث /مراجعات ليلة الامتحان كل مقررات 2ث الترم الثاني /كتاب الزكاة /بستان العارفين /كتب 2 ثاني ثانوي ترم1و2 . /ترم اول وثاني الماني2ث  ///بيسو /مدونات أمي رضي الله عنكي /نهاية العالم /مدونة تحريز نصوص الشريعة الإسلامية ومنع اللعب باالتأويل والمجاز فيها /ابن حزم الأندلسي /تعليمية /أشراط الساعة /أولا/ الفقه الخالص /التعقيبات /المدونة الطبية /خلاصة الفقه /معايير الآخرة ويوم الحساب /بر الوالين /السوالب وتداعياتها

Translate ترجم باللغة التي تريدها بيسي

الأحد، 27 ديسمبر 2020

حقيقةُ الشفاعةِ والخروج أو عدمِ الخروجِ من النار وكيف ينقد متن حديث واسبابه

منقوووووووول

 


المــهندس عـدنان الرفــاعي
اولا  لمن تكون الشفاعة {{{{{{{{{{ }}}}}}}}}
كاتـب ومـفـكِّــر إســـلامي


لقد تمَّ تشويهُ مسألةِ الشفاعةِ ( من قِبَلِ الكثيرين الذين يحسبونَ أنفسَهم أوصياءَ على منهجِ اللهِ تعالى ) بتصويرِها وساطة كوساطةِ البشر، دون معيارِ حقٍّ أو عدل .. فالكثيرون من أصحابِ المعاصي ومن المقصّرين في عبادتِهِم للهِ تعالى ، ومن ناشري الفساد، يتَّكلونَ على هذه الشفاعةِ بحجّةِ أنّهم مُسلمون ..
وهناك بعضُ الرواياتِ ( في كتبِ الصحاح ) التي تناقِضُ دلالاتِ القرآنِ الكريم مناقضةً صريحةً، تُعطيهم حيثيّاتِ هذا التواكل .. لذلك علينا أنْ ندرسَ مسألةَ الشفاعةِ من كتابِ اللهِ تعالى لنرى حقيقتَها وحدودَها ..
ولنبدأ بوضعِ ما تحمِلُهُ رواياتُ الشفاعةِ من معانٍ ودلالاتٍ ، في معيارِ القرآنِ الكريم ، كخطوةٍ نحوَ إدراكِ حقيقةِ الشفاعةِ ، وتنزيهِها عمّا أُلصِقَ بها من افتراءٍ على اللهِ تعالى وعلى رسولهِ  ..
[ 1 ] – إنَّ الجزمَ بأنّ شفاعةَ الرسولِ  هي لأهلِ الكبائرِ من أمّتِهِ ، اعتماداً على الأحاديثِ التاليةِ ، يتناقضُ مع الكثيرِ من آياتِ القرآنِ الكريم.
سنن الترمذي – حديث ( 2359 ) :
( حَدَّثَنَا ….. عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي ….. ) ..
سنن أبي داود – حديث ( 4114 ) :
( حَدَّثَنَا ….. عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي ) ..
مسند أحمد – حديث ( 12745 ) :
( ….. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي ) ..
سنن ابن ماجة – حديث ( 4300 ) :
( ….. عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي ) ..
 
 
[ أ ] – لننظر إلى الصورتين القرآنيّتين التاليتين :
( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ) [ النساء : 4/31 ]
( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ …..) [ النجم : 53/31-32 ] ..
 
 
إنّنا نرى – في هاتين الصورتين القرآنيّتين – أنّ اللهَ تعالى يُكفِّرُ عنّا سيئاتِنا إذا اجتنبنا كبائِرَ ما نُنهى عنه ، وأنّ الذين أحسنوا بالحسنى هم الذين اجتنبوا كبائرَ الإثمِ .. وبالتالي فإنّ الوقوعَ في هذه الكبائر مع عدمِ التوبةِ المقبولةِ ، يؤدّي إلى عدمِ تكفيِر السيئات ، وإلى ساحةِ الذين أساؤوا بما عَملوا ، الذين سيجزيهم اللهُ تعالى على ذلك .. وهذا يتعارضُ تماماً مع الشفاعةِ لأهلِ الكبائرِ الذين ماتوا دونَ توبةٍ مقبولة ..
 
 
[ ب ] – يُبيّنُ لنا القرآنُ الكريمُ أنّ مرتكبي الكبائر ، إذا ماتوا دونَ توبةٍ مقبولةٍ ، فسيخلدونَ في جهنّمَ ، سواءٌ كانوا من الموحّدين أمْ من غيرِ الموحّدين ، وسواءٌ كانوا من أمّةِ محمّدٍ  أم من غيرِهم ..
 
 
( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ البقرة : 2/275 ] ..
 
 
( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) [ النساء : 4/14 ] ..
 
 
( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) [ النساء : 4/93 ] ..
( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ) [ النساء : 4/123 ] ..
( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ يونس : 10/27 ] ..
 
 
إنّ آكلي الربا هم من الموحِّدين ومن غيرِ الموحِّدين ، ومن أتباعِ جميعِ الديانات .. والذين يعصونَ اللهَ تعالى ورسولَهُ كثيرٌ منهم مسلمون .. وقاتلي المؤمنين موجودون في جميعِ الأديان .. وكذلك الأمرُ بالنسبةِ لعاملي السوء ، ولكلِّ الكبائر ..
.. هؤلاء جميعاً إذا ماتوا دون توبةٍ مقبولةٍ ، سيخلدونَ في النارِ .. هكذا يقولُ اللهُ تعالى في كتابِهِ الكريم .. فكيف إذاً تتمُُّ الشفاعةُ بالنسبةِ لمرتكبي هذه الكبائر ؟ ! ..
 
 
وإذا قالَ قائلٌ .. إنّ تأويلَ ما نُسبَ إلى الرسولِ  ( شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي ) ، أنّ هؤلاء الذين سينالونَ الشفاعةَ هم من أمّةِ محمّدٍ ، الملتزمينَ بمنهجِ اللهِ تعالى .. نقولُ : لو كان الأمرُ كذلك ، كيف يقومُ هؤلاء بالكبائر التي يبيّنُ لنا القرآنُ الكريمُ أنّها لا تُكفَّر ؟ ! .. فالملتزمُ بما جاءَ به الرسولُ من عندِ اللهِ تعالى ، لا يعملُ الكبائر ..
 
 
[ ج ] – قولُهُ تعالى ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) [ الزمر : 39/19 ] ، يبيّنُ لنا أنّ الذين حقّتْ عليهم كلمةُ العذابِ – ومنهم كما رأينا أهلُ الكبائر من المسلمين – موحِّدين كانوا أم غيرَ موحّدين ، لا يُنقِذُهُم حتى الرسول من هذا العذاب ..
[ د ] – قولُهُ تعالى .. ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) [ آل عمران : 3/192 ] ، وقولُهُ تعالى .. ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) [ غافر : 40/18 ] ، يبيّنُ لنا أنّ الظالمين ما لهم من أنصارٍ ، ولا شفيعٍ يُطاع .. ومعلومٌ أنّ الظالمَ قد يكونُ من الموحّدين ، ومن أيِّ أمّةٍ ، ومن أتباعِ أيِّ دين ..
[ هـ ] – ما نُسِبَ إلى رسولِ الله  ، من أنّ شفاعتَهُ لأهلِ الكبائر من أمّتِهِ – كما رأينا – يرُدُّهُ القرآنُ الكريم .. فقيامُ بعضِ المسلمين بالكبائر يُوجِبُ عليهم عقوبةً أكبرَ من العقوبةِ المترتّبةِ على غيرِهِم في حالِ قيامِ غيرِهِم بهذه الكبائر ذاتِها .. فالذي يعصي اللهَ تعالى عن عِلْمٍ بحقيقةِ هذه المعصيةِ وبحقيقةِ عقوبتِها ، عقوبتُهُ أكبرُ ممّن يعصيه عن غيرِ عِلْم ..
ويبيّنُ لنا القرآنُ الكريمُ أنّ عقوبةَ الرسولِ  وزوجاتِهِ – فيما لو تمَّ وقوعُ الخطأِ – هي ضعفُ غيرِهِما من عامّةِ المسلمين ، لأنّهُ  وزوجاتِه أقربُ البشرِ إلى العِلمِ بحقيقةِ المنهج ..
( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) [ الإسراء : 17/74-75 ]
( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ) [ الأحزاب : 33/30 ] ..
والحواريّون الذين طَلبوا أن يُنزلَ اللهُ تعالى عليهم مائدةً من السماء .. عقوبتُهُم ستصبح أكبرَ بكثيرٍٍ بعد رؤيتِهم لهذا البرهان الإلهي ، فيما إذا كفروا ..
( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ ) [ المائدة : 5/115 ] ..
وهكذا نرى أنّ ارتكابَ المسلمين للكبائر في حياتِهم الدنيا ، يُرتِّبُ عليهم عقوبةً – فيما لو لم يتوبوا توبةً مقبولة – أكبرَ من غيرِهِم الذي يقوم باقترافِ الكبائر ذاتِها ، لأنّهم أكثرُ عِلماً بالحقيقةِ .. وهذا يُناقِضُ تماماً صياغةَ الحديث .. فإذا كانت هناك شفاعةٌ لهذه الكبائر ، فغيرُ المسلمين أقربُ إليها ، لأنّهم لا يعلمون الحقيقةَ كما يعلمُها المسلمون ..
[ و ] – ما نُسبَ إلى الرسولِ  من أنّ شفاعتَهُ لأهلِ الكبائر من أمّتِِِه ، يتناقضُ مع رواياتٍ أُخرى تؤكِّد أنّه حتى فاطمة بنت محمّد  ، لا يملكُ لها رسولُ الله  شيئاً ..
صحيح البخاري – حديث ( 2548 ) :
( حَدَّثَنَا ….. أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ….. ) ..
صحيح مسلم – حديث ( 304 ) :
( حَدَّثَنَا ….. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ ) ..
[ 2 ] – حديثُ الشفاعةِ الكُبرى – التالي – يتنافى مع الكثيرِ من آياتِ القرآنِ الكريم ..
صحيح البخاري – حديث ( 6956 ) :
( حَدَّثَنَا ….. فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتُونِي فَأَقُولُ أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْ النَّارِ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ……. قَالَ ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) ..
[ أ ] – هذا الحديثُ بهذهِ الصيغةِ يتناقَضُ مع قولِهِ تعالى ..
( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) [ البقرة : 2/48 ]
( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) [ البقرة : 2/123 ]
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [ البقرة : 2/254 ] ..
إنّنا نرى – في هذه النصوصِ القرآنيّةِ – كيف تُنفى الشفاعَةُ التي تبدأُ مقدِّماتُها في الآخرةِ ، بأقوى صيغِ النفي ….. فالشفاعةُ التي تبدأُ مقدّماتُها في الآخرةِ لا وجودَ لها ..
أمّا الصورُ القرآنيّةُ التي تربطُ الشفاعةَ بإذنِ اللهِ تعالى ، وبرضاهُ ، وباتّخاذِ العهدِ عنده ، وبشهادةِ الحقِّ ، فهي تصوِّرُ حقيقةَ الشفاعةِ التي تبدأ مقدّماتُها في الدنيا كما سنرى لاحقاً ، وتؤكِّدُ أنّ الشفاعةَ تعودُ في النهايةِ إلى اللهِ تعالى ..
وهكذا نرى في النصوصِ القرآنيّةِ الثلاثِ السابقة ، أنّه لا تُوجَدُ نفسٌ تستطيعُ إسقاطَ العقابِ عن نفسٍ أُخرى ، فلو استطاعتْ إسقاطَ العقابِ عن نفسٍ أُخرى لكانتْ قد أجزَتْ عنها شيئاً ، ولكانتْ قد نصرَتْها وشفعتْ لها ، ولكان في الآخرةِ وجهٌ من أوجهِ الشفاعةِ التي تبدأُ مقدّماتُها في الآخرةِ ، وهذا يتنافى تماماً مع صياغةِ هذه الآياتِ الكريمة ..
[ ب ] – دخولُ الجنّةِ يرتبطُ بالعملِ وِفقَ منهجِ اللهِ تعالى ..
( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ النحل : 16/32 ] ..
( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ الزخرف : 43/72 ] ..
فلو فرضنا – جدلاً – أنّ الموحِّدينَ سيخرجونَ من النارِ بالشفاعةِ ، على الرغمِ من تقصيرِهِم بالعمل .. فهل سيدخلونَ الجنّةَ بلا عمل ؟ ! ! ..
[ ج ] – قولُهُ تعالى .. ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) [ غافر : 40/7 ] ، يُبيّنُ لنا أنّ غفرانَ اللهِ تعالى – ووقايةَ عذابِ الجحيمِ – ينالُهُ التائبونَ المتَّبعونَ لسبيلِ اللهِ تعالى ، وبالتالي فغيرُ التائبِ وغيرُ المتَّبعِ لسبيلِ اللهِ تعالى ، لا ينالُ هذا الغفران ، ولا ينالُ الوقايةَ من النارِ ، وبالتالي لن تنفعَهُ الشفاعةُ ( التي تبدأُ مقدّماتُها في الآخرة ) ، وإنْ كان من الموحِّدين ..
[ د ] – حينما تكونُ الشفاعةُ مخصوصةً لنوعٍ من البشرِ دون الآخرين ، أو لدينٍ محدَّدٍ دون غيرِهِ من الدياناتِ السماويّةِ ، أو لمذهبٍ محدَّدٍ .. فإنّها في النهايةِ ظُلمٌ لهؤلاءِ الآخرين ، لأنّها – حين ذلك – دونَ معيارِ حقٍّ يرتبطُ بالإيمانِ والعملِ .. وإنْ كانتْ وِفقَ معيارِ إيمانٍ وعَمَلٍ يشملُ جميعَ البشرِ ( وهي كذلك ) ، فلا بُدَّ أن يكونَ هذا المعيارُ من جملةِ المعايير التي يُحاسبُ عليها البشرُ في الآخرة ، قبلَ دُخولِهم إلى النارِ أو إلى الجنّةِ .. وحين ذلك فإنّ مفهومَ الشفاعةِ بالحيثيّةِ التي ترويها الأحاديثُ – كما رأينا – لا معنى لها ..
[ هـ ] – هذا الحديثُ بهذهِ الصياغةِ يتناقضُ ما بين بدايتِهِ ونهايتهِ ، ففي بدايتهِ يذهبُ الناسُ يومَ القيامةِ إلى آدمَ وبعضِ الرسلِ عليهم السلام ، وهذا يكونُ قبلَ الدخولِ إلى الجنّةِ وإلى النارِ .. وفي داخلِ الحديثِ لا يذكرُ الرسولُ  إلاّ أُمّتَهُ ، مع العلمِ أنّ الذين أتوا إليه ليشفعَ لهم هم الناسُ على مختلفِ أديانِهِم .. ويُخرِجُ الرسولُ  المشفوعَ لهم من النارِ ، مع العلمِ أنّه لم يتمّ الدخولُ – حتى تلك اللحظةِ – إلى النار ..
[ 3 ] – إنّ الجزمَ بأنّ العبارةَ القرآنيّةَ ( مَقَاماً مَحْمُوداً ) في الصورةِ القرآنيّةِ التاليةِ ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) [ الإسراء : 17/79 ] ، لا تعني إلاّ الشفاعةَ الكُبرى للرسولِ  يومَ القيامةِ ، وذلك اعتماداً على الحديثِ التالي .. هذا الجزمُ لا تُسعفُهُ الدلالاتُ التي تحملُها صياغةُ هذه الصورةِ القرآنيّة ..
صحيح البخاري – حديث ( 4349 ) :
( حَدَّثَنِي…… قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ يَا فُلَانُ اشْفَعْ يَا فُلَانُ اشْفَعْ حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ ) ..
سنن الترمذي – حديث ( 3062 ) :
( حَدَّثَنَا …… عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا سُئِلَ عَنْهَا قَالَ هِيَ الشَّفَاعَةُ ……) ..
إنّ الشفاعةَ التي تصفُها الرواياتُ ، والتي لا يكونُ لها إلاّ الرسولُ  – كما رأينا في صحيحِ البخاري حديث ( 6956 ) – هي مسألةٌ معلومةٌ ومعروفةٌ ووحيدة ، ولا يقدرُ عليها إلاّ شخصٌ واحدٌ هو الرسولُ محمّدٌ  .. وبالتالي ليستْ نكرةً ، وليست مَرْتَبَةً ما من مجموعةِ مراتب ..
ولو نظرنا إلى الصورةِ القرآنيّةِ التي قِيلَ إنّها تصفُ هذه المسألةَ ، لرأينا أنّ العبارةَ القرآنيّةَ ( مَقَاماً مَحْمُوداً ) فيها ، تأتي بصيغةِ نكرةٍ موصوفةٍ ، ولم تأتِ بصيغةِ المعرفةِ الموصوفةِ ..فالشفاعةُ الكُبرى – حسب ما تقولُ الرواياتُ – تُناسبُها الصياغةُ ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ المَقَامَ المَحْمُودَ ) ..
ولذلك .. حتى الذين صاغوا عباراتِ الروايةِ الحاملةِ لهذه المسألةِ ( الحديث : 4349 ، في صحيح البخاري ) ، ونسبوها إلى ابنِ عمر ، لم يستطيعوا القفزَ فوقَ هذه الحقيقةِ اللغويّة .. فالعبارةُ ( فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ ) في الحديثِ المذكور ، تؤكِّدُ هذه الحقيقةَ ..
إنّ العبارةَ القرآنيّةَ ( مَقَاماً مَحْمُوداً ) ، تُصوِّرُ درجةَ بعثِهِ  ، المرتبطةَ بمقدارِ سموِّ درجةِ تهجّدِهِ .. ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ..
ولذلك لا يمكنُ الجزمُ بأنّ العبارةَ القرآنيّةَ ( مَقَاماً مَحْمُوداً ) ، تعني بعثَهُ  مقاماً محدَّداً ، لا ثاني له ، هو الشفاعةُ الكُبرى للبشر ، كما هو واردٌ في الروايات ..
والسؤالُ الذي يطرَحُ نفسَهُ الآن .. ما هي الشفاعةُ ؟ ..
الجذرُ اللغويُّ للشفاعةِ هو الجذرُ ( ش ف ع ) .. ودلالاتُهُ تدورُ ضمنَ إطارِ خلافِ الوترِ ، وبالتالي ضمنَ إطارِ الزوجِ .. والشفاعةُ – كما تُستنبَطُ من مشتقّاتِ الجذرِ ( ش ف ع ) في القرآنِ الكريم – هي المزاوجَةُ بين المُرادِ وبينَ وتحقيقِهِ ، أي طلبُ الشافِع بتحقيقِ مُرادِ المشفوعِ له ..
إنَّ الإرادةَ تتحوَّلُ إلى مشيئةٍ ( واقعٍ ملموسٍ ) بالعملِ ، وبالأخذِ بالأسبابِ ، أي بالمزاوجةِ بينها وبينَ العملِ .. أمّا حينما يُفقَدُ العَمَلُ ، ولا يُؤخَذُ بأسبابِ تحقيقِ المُرادِ ، فإنّ الإرادةَ لا تتحوّلُ إلى واقعٍ محسوسٍ ( مشيئة ) ، وتبقى مجرَّدَ هدفٍ وغايةٍ في نفسِ المُريد ..
فالشفاعةُ هي مزاوجةُ الدعاءِ إلى اللهِ تعالى والطلبِ منه والتوسّلِ إليه جلّ وعلا ( حيث يقومُ بذلك الشافِعُ ) ، مع مُرادِ المشفوعِ له ، لتحقيقِ هذا المرادِ ، لأنّ المشفوعَ له لم يُزاوِجْ إرادتَهُ هذه بالعملِ وبالأخذِ بالأسبابِ في حياتِهِ الدنيا .. إذاً الشفاعةُ هي لمن ملكَ إرادةً خيِّرةً للعملِ ( في حياتِهِ الدنيا ) ، ولم يقمْ بتحقيقِ هذه الإرادةِ بالعمل ..
ولو نظرنا إلى مشتقّاتِ الجذرِ ( ش ف ع ) في القرآنِ الكريم ، من منظارِ المنهجِ السليمِ لتدبُُّرِ كتابِ اللهِ تعالى ( آمَنَّا بِهِ كُلٌّ ) [ آل عمران : 3/7 ] ، لرأينا أنّ الشفاعةَ الواردةَ في كتابِ اللهِ تعالى ، جميعَهَا مقدّماتُها في الدنيا ، وليس في الآخرة .. وفي الآخرةِ يتمُّ قبولُ هذه الشفاعةِ ( قبولُ مزاوجةِ دعاءِ الشافِعِ وتوسّلِهِ إلى اللهِ تعالى مع إرادةِ الخيرِ في الدنيا للمشفوعِ له ، من أجلِ رفعِ هذه الإرادةِ إلى مستوى العملِ المأجور ) ، أو يتمُّ عدمُ قبولِها ، وفقَ معاييرَ تتعلّقُ بصدقِ الإرادةِ – في الدنيا – للمشفوعِ له ..
لننظر إلى الصورةِ القرآنيّةِ التالية ..
( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) [ النجم : 53/26 ] ..
إنّ العبارةَ القرآنيّةَ ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ ) تُصوِّرُ لنا بعضَ الملائكةِ الآن ( قبلَ الآخرةِ ) ، الموجودينَ في السماوات ….. والأَولى بتفسيرِ العبارةِ القرآنيّةِ ( لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً ) ، أنّها تعني شفاعتَهُم الآن ( قبلَ الآخرة ) ..
وحتى لو تمَّ سحبُ هذه الشفاعةِ إلى الآخرةِ ، فإنّ العبارةَ القرآنيّةَ ( إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) ، ساحتُها الدنيا حصراً ، لأنّها تصوِّرُ لنا مقدّماتِ قبولِ الشفاعةِ … ومقدّماتُ قبولِ الشفاعةِ هي حصراً في الدنيا ( دارِ الامتحان ) ، لأنّها تتعلَّقُ بالإرادةِ الطاهرةِ للمشفوعِ لهم ، والتي أرادوها في الدنيا ولم يستطيعوا ترجمتَها إلى عَمَلٍ حسِّيٍّ ..
فَسَحْبُ مقدّماتِ هذه الشفاعةِ إلى الآخرةِ ( إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) ، يتنافى مع الآياتِ الكريمةِ التي تنفي أيَّ شفاعةٍ تبدأُ مقدّماتُها في الآخرةِ كما رأينا ..
( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) [ البقرة : 2/48 ] ..
( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) [ البقرة : 2/123 ] ..
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [ البقرة : 2/254 ] ..
وهكذا يكونُ تقديرُ الصورةِ القرآنيّةِ ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) ، على الشكلِ : (( وكم من ملكٍ في السماواتِ لا ينفعُ دعاؤهم وتوسّلُهم – سواءٌ في الدنيا أم في الآخرةِ – لمزاوجةِ هذا الدعاءِ والتوسّلِ مع إرادةِ البشرِ الخيّرةِ التي أرادوها في الدنيا ولم يستطيعوا مزاوجتَها مع العملِ ، من أجلِ رفعِ هذه الإرادةِ إلى مستوى العملِ المأجورِ ، إلاّ من بعدِ أنْ يأذنَ اللهُ تعالى بأن تتمَّ هذه المزاوجةُ لمن يعلمُ اللهُ تعالى صدقَ إرادتِهِ ، ويرضى عن هذه الإرادةِ الطاهرةِ ، وبأنّها أهلٌ لدخولِ ساحةِ مشيئةِ الله تعالى ورضاه ( لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) ، وبالتالي لرفعِها إلى مستوى المشيئةِ)) ..
والشفاعةُ في عالمِ الدنيا كمقدّمات .. نراها في الصوَرِ القرآنيّةِ التالية ..
( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) [ البقرة : 2/255 ] ..
( مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ) [ النساء : 4/85 ] ..
( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) [ يونس : 10/3 ] ..
( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) [ الأنبياء : 21/28 ] ..
فالشفاعةُ التي تنفعُ في الآخرةِ ، يحتاجُ فيها المشفوعُ له إلى إرادةٍ طاهرةٍ لعملِ الخيرِ ، أرادها في الدنيا ( دارِ العمل ) .. هذه الحقيقةُ نراها في الصورةِ القرآنيّةِ التالية ..
( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) [ طه : 20/109 ]
فالعبارةُ القرآنيّةُ ( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ ) ساحتُها الآخرةُ .. والعبارةُ القرآنيّةُ ( إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) ساحتُها الدنيا ..
والنصوصُ القرآنيّةُ التاليةُ تؤكِّدُ هذه الحقيقةَ ..
( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) [ مريم : 19/87 ]
( وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) [ سبأ : 34/23 ]
( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [ الزخرف : 43/86 ]
فقولُهُ تعالى ( إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) في النصِّ الأوّلِ ، يصوّرُ لنا العهدَ في الحياةِ الدنيا ، وبالتالي فمقدّماتُ هذه الشفاعةِ ساحتُها الدنيا .. وكذلك قولُهُ تعالى ( إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) في النصِّ الثاني .. وكذلك قولُهُ تعالى ( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) في النصِّ الثالث ..
ولمّا كان الكافرون والظالمون لا يملكونَ إرادةَ خيرٍ في حياتِهِم الدنيا من الممكنِ مزاوجتُها مع دعاءِ الشافعين ، فإنّهم لا تنفعُهُم الشفاعةُ أبداً ..
( وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ) [ الشعراء : 26/ 99 – 100 ] ..
( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) [ غافر : 40/18 ] ..
( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) [ المدّثّر : 74/42-48 ] ..
إذاً من لم يملكْ مقدِّماتِ الشفاعةِ ( الإرادةَ الخيّرةَ الصادقة ) في الدنيا ، لا تُفيدُهُ أيُّ شفاعةٍ في الآخرةِ ، لأنّ أحدَ زوجي الشفاعةِ غيرُ موجودٍ .. وهكذا فالشفاعةُ التي تبدأُ مقدِّماتُها في الآخرةِ لا وجودَ لها على الإطلاق ..
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [ البقرة : 2/254 ] ..
فقولُهُ تعالى ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ) يعني يومَ الآخرةِ .. وهذا اليومُ لا بيعٌ يبدأُ فيه ( لا بَيْعٌ فِيهِ ) ، بينما في الحياةِ الدنيا كان الناسُ يبيعون .. ولا خلَّةَ تبدأُ فيه ( وَلا خُلَّةٌ ) ، بينما في الحياةِ الدنيا كانت الخلّةُ بين الكثيرِ من أفرادِ البشر .. فالخلّةُ تبدأُ في الدنيا ، وتنتهي في الآخرةِ إلاّ للمتّقين ..
( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) [ الزخرف : 43/67 ] ..
وقولُهُ تعالى ( وَلا شَفَاعَةٌ ) يُماثل تماماً ( لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ ) .. فاللهُ تعالى يقولُ .. لا بيعٌ ولا خلّةٌ ولا شفاعةٌ تبدأُ في الآخرةِ ، فالبيعُ والخلّةُ والشفاعةُ مسائلُ تبدأُ في الدنيا ، ويستفيدُ الإنسانُ – إيمانيّاً – من نتائجِها في الآخرة ..
والنصّان القرآنيّان التاليان يؤكِّدان هذه الحقيقةَ ..
( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) [ البقرة : 2/48 ] ..
( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) [ البقرة : 2/123 ] ..
فالشفاعةُ التي لا تُقبلُ ولا تنفعُ ، هي التي تبدأ مقدّماتُها في الآخرةِ ( وَاتَّقُوا يَوْماً ) دون امتلاكِ مقدّماتٍ لها في الدنيا من إرادةِ خيرٍ ، كما رأينا ..
والشفاعةُ جميعُها تعودُ إلى اللهِ تعالى ، فهي معيارٌ من معاييرِ حسابِ اللهِ تعالى للبشرِ دونَ استثناءٍ ..
( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) [ الأنعام : 6/51 ] ..
( وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ) [ الأنعام : 6/70 ] ..
( مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) [ السجدة : 32/4 ] ..
( قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعا ) [ الزمر : 39/44 ] ..
وهكذا نرى أنّ الشفاعةَ كما يَصِفُها اللهُ تعالى في كتابِهِ الكريم – لا كما لُبِّسَ على الرسولِ  – هي مزاوجَةُ الإرادةِ الخيّرةِ للمشفوعِ له ، مع دعاءِ الشافِعِ وطلبِهِ غفرانَ اللهِ تعالى للمشفوعِ له ، أي مع طلبِ رفعِ هذه الإرادةِ إلى مستوى المشيئة … فصاحبُ هذه الإرادةِ عجزَ عن

تحقيقِها بالعملِ وبالأخذِ بالأسبابِ في حياتِهِ الدنيا ..

الشفاعة =

إرادة خيّرة للمشفوع له أرادها في حياته الدنيا

+ دعاء الشافِع وطلبه من الله تعالى رفع إرادة المشفوع له إلى مستوى العمل في ميزان الآخرة

ومسألةُ الخروجِ من النارِ بعد انقضاءِ فترةٍ من العذابِ فيها ، بالنسبةِ لبعضِ الداخلينَ في النارِ، هي مسألةٌ غيرُ واردةٍ في كتابِ اللهِ تعالى .. فبعدَ انتهاءِ الحسابِ وسوقِ أهلِ النارِ إلى النارِ وأهلِ الجنّةِ إلى الجنّةِ ، يدخلُ الجميعُ حياةَ خلودٍ لا تنتهي ، ولا تتبدّلُ بالانتقالِ من النارِ إلى الجنّةِ ، ولا من الجنّةِ إلى النارِ ..
فالقرآنُ الكريمُ يؤكّدُ أنّ أهلَ النارِ – دون استثناءٍ – لا يخرجونَ منها ..
( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) [ البقرة : 2/167 ]
( يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) [ المائدة : 5/37 ]
ويوم القيامةِ ينقسمُ المكلّفونَ إلى فريقين .. فريقٌ تثقلُ موازينُةُ ، وفريقٌ تخفُّ موازينُهُ .. والذين خفَّتْ موازينُهُم نتيجةَ غَلَبَةِ شقوتِهم عليهم ، تلك الشقوة التي أدّتْ بهم في حياتِهم الدنيا إلى الضلال ، يطلبون الخروجَ من النارِ .. ويأتيهم الردُّ من اللهِ تعالى ، لا كما يريدون ..
( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) [ المؤمنون : 23/101-108 ] ..
فأهلُ جهنَّم .. سيخلدونَ فيها مجرَّدَ ما دخَلوا أبوابَها ، ولا يخرجونَ منها أبداً .. وكذلك الأمرُ بالنسبةِ لأهلِ الجنّة ..
( فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) [ النحل : 16/29 ]
( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً 00000 (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً 00000 فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) [ الزمر : 39/71-73 ] ..
( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) [ غافر : 40/76 ]
وبالتالي فإنّ الصورةَ القرآنيّةَ ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ) [ النبأ : 78/21-23 ] ، تعني أنّ أهلَ جهنّمَ تَتَابَعُ علهم دوراتُ العذابِ وألوانِهِ المختلفةِ ، كلّما مضى لَونٌ من العذابِ تبعَهُ لونٌ آخر .. وهكذا إلى الأبد ..
هذه الحقيقةُ نراها في الصورةِ القرآنيّةِ ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) [ الحج : 22/22 ] ..فأهلُ جهنّمَ حينما يقتربُ لونٌ من العذابِ (حقبٌ) من الانتهاءِ ، يتّجِهُ قصدُهُم وغايتُهُم ( إرادتُهم ) باتّجاهِ الخروجِ من الغمِّ الذي هم فيه .. ولكنّهم يعودونَ فيدخلونَ لوناً جديداً من العذابِ ، وحينما يقتربُ هذا اللونُ الجديدُ من العذابِ من نهايتِهِ ، يتّجهُ قصدُهُم وغايتُهُم نحو الخروجِ من جهنّم .. ولكنّهم يعودون فيدخلون لوناً جديداً آخرَ من العذابِ .. وهكذا .. هذا ما تصوِّرُهُ هذه الصورةُ القرآنيّةُ ، كتبيانٍ للصورةِ القرآنيّةِ ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ) ..
والصورةُ القرآنيّةُ التاليةُ تؤكّدُ هذه الحقيقةَ ..
(ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) [ هود : 11/103-108 ] ..
إنّ المعنيَّ بالسماواتِ والأرضِ في العبارةِ القرآنيّةِ ( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ) ، هو سماواتُ الآخرةِ وأرضُها ، بعد أن تُبدّلا عن سماواتِ الدنيا وأرضِها ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) [ إبراهيم : 14/48 ] .. وهذه العبارةُ ( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ) تعني الخلودَ – سواءٌ لأهلِ النارِ أمْ لأهلِ الجنّةِ – وهي متكاملةٌ مع العبارةِ القرآنيّةِ التي تسبقُهَا مباشرةً ( خَالِدِينَ فِيهَا ) ..
والمسألةُ التي حارَ بِها الكثيرون ، هي إدراكُ دلالاتِ العبارةِ القرآنيّةِ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) .. ولإدراكِ دلالاتِها إدراكاً سليماً ، علينا أن نبيّنَ النقاطَ التالية :
[ 1 ] – رأينا في تبيانِ القرآنِ الكريمِ أنّه لن يخرجَ أيٌّ من أهلِ النارِ من النارِ ، ولن يخرجَ أيٌّ من أهل الجنّةِ من الجنّةِ .. ولذلك فإنّ أيَّ تصوّرٍ لتأويلِ هذه العبارةِ بأنّها تعني خروجَ قسمٍ من أهلِ النارِ من النارِ ، هو تصوّرٌ غيُر سليمٍ ، لأنّه يُناقِضُ صريحَ القرآنِ الكريمِ ، ولأنّه سيعني بالضرورةِ خروجَ قِسمٍ من أهلِ الجنّةِ من الجنّةِ ، فالآيةُ التي تتحدّثُ عن أهلِ النارِ تتلوها آيةٌ تتحدّثُ عن أهلِ الجنّةِ بصياغةٍ مشابهةٍ تماماً ..
[ 2 ] – الأقوالُ والرواياتُ التي تقولُ إنّ بعضَ الداخلينَ إلى النارِ سيخرجونَ منها ، ويدخلونَ الجنّةَ ، هي أقوالٌ ورواياتٌ لا تُناقضُ صريحَ القرآنِ الكريمِ فحسب ، وإنّما ينقضُها القرآنُ الكريمُ مبيّناً أنّها أقوالٌ ورواياتٌ تُماثِلُ ما يزعمُهُ اليهودُ ..
( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ البقرة : 2/80-81 ] ..
[ 3 ] – إنّ الجزمَ بأنّ المقصودَ بالعبارةِ القرآنيّةِ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) هو خروجُ بعضِ أهلِ النارِ من النارِ ، يقتضي – لو كان سليماً ولو كان لا يُنافي صريحَ القرآنِ الكريم – ورودَ هذه العبارةِ القرآنيّةِ على الشكلِ ( إلاّ من شاء ربّك ) .. فالعاقلون – كأهلِ النارِ وأهلِ الجنّةِ – تُناسبُهُم كلمةُ ( من ) دونَ كلمةِ ( ما ) ، إضافةً إلى أنّ هذا الجزمَ يقتضي خروجَ بعضِ أهلِ الجنّةِ من الجنّةِ .. وبالتالي لا يمكنُ الجزمُ بأنّ كلمةَ ( ما ) تعني مجموعةً من العاقلين الداخلين في النارِ ، أو في الجنّةِ.
[ 4 ] – لمّا كان ورودُ كلمةِ ( ما ) دونَ كلمةِ ( من ) في العبارة القرآنيّة ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّك ) لا يُفيدُ الجزمَ باستثناءِ بعضِ أهلِ النارِ – أو بعضِ أهلِ الجنّةِ – كما رأينا .. فإنّ ذلك لا يقتضي ولا يفرضُ أنّ هذه العبارةَ القرآنيّةَ تعني استثناءً من زمنِ الخلودِ ، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى أنّ الخلودَ التامَّ لا يُوجَدُ في النارِ ولا في الجنّةِ ، لجميعِ الداخليَن في النارِ وفي الجنّةِ دون استثناءٍ .. وهذا يُناقضُ صريحَ البيانِ القرآنيِّ في العديدِ من الآياتِ الكريمة ..
[ 5 ] – إنّ القولَ بأنّ العبارةَ القرآنيّةَ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّك ) تعني استثناءَ زمنِ وقوفِ أهلِ الموقفِ في الموقفِ ، أو زمنِ عمرِهم في الدنيا ، أو في عالمِ البرزخ .. يُناقضُ كونَ الصورةِ القرآنيّةِ السابقةِ لهذه العبارةِ القرآنيّةِ ( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ) تعني المرحلةَ بعدَ دخولِ النارِ ( فَفِي النَّارِ ) ، والمرحلةَ بعدَ دخولِ الجنّةِ ( فَفِي الْجَنَّةِ ) ، أي بعدَ الموقفِ ، وبالتالي بعدَ الدنيا وبعدَ عالمِ البرزخ .. وبالتالي فالعبارةُ القرآنيّةُ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّك ) تبدأُ ساحتُها بعدَ الدخولِ في النارِ ، وبعدَ الدخولِ في الجنّةِ ..
[ 6 ] – تأويلُ هذه الصورةِ القرآنيّةِ على أنّ الخارجينَ من النارِ بعد عذابِهِم لفترةٍ محدّدةٍ ، والذين تعنيهم العبارةُ القرآنيّةُ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّك ) في الآيةِ التي تتحّدثُ عن أهلِ النارِ ، هم ذاتُهم الذين تعنيهم العبارةُ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّك ) في الآيةِ التي تتحدّثُ عن أهلِ الجنّةِ .. أي أنّ الخارجينَ من النارِ اُستثني من خلودِهِم فيها زمنُ ما بعد هذا الخروج ، وهو ذاتُهُ زمنُ لبثِهم في الجنّةِ التي دخَلوها بعد خروجِهم من النارِ ، وهؤلاء ذاتُهم – بعد دخولِهم الجنّة – اُستثني من خلودِهِم في الجنّةِ زمنُ وجودِهِم في النارِ ، قبل مجيئهم إلى الجنّةِ 000 هذا التأويلُ غيرُ سليمٍ ، لأنّ ابتداءَ الآيةِ التي تتحدّثُ عن أهلِ النارِ بالعبارةِ ( فَأَمَّا الَّذِين ) ، وابتداءَ الآيةِ التي تتحدّثُ عن أهلِ الجنّةِ بالعبارةِ ( وَأَمَّا الَّذِين ) ، يؤكّدُ لنا أنّنا أمامَ فريقين مختلفين ، ولسنا أمامَ فريقٍ واحد ..
[ 7 ] – قولُهُ تعالى ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) يصفُ لنا الشقاءَ والسعادةَ من منظارِ علمِ اللهِ تعالى المطلق .. ومَنْ حَكَمَ اللهُ تعالى عليه بالشقاءِ فلن يكونَ سعيداً ، وستلازِمُهُ صفةُ الشقاءِ .. ولذلك فإنّ القولَ بأنّ بعضَ الذين شَقوا سيخرجونَ من النارِ ويدخلونَ الجنّةَ ، هو – في النهايةِ – وصفٌ لهؤلاء بأنّهم من الذين سُعدوا ، وهذا يُنافي وصفَ اللهِ تعالى لهم بالشقاء ..
[ 8 ] – الخلودُ مسألةٌ تعني عدمَ الوصولِ إلى نهايةٍ .. فهو يعني سرمديّةَ النهايةِ ، ولا يعني سرمديّةَ البدايةِ ..
( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ) [ الأنبياء : 21/34 ]
( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) [ الشعراء : 26/129 ] ..
ولذلك فإنّ العبارةَ القرآنيّةَ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّك ) لا يمكنُ أن تكونَ استثناءً من الخلودِ ، فدخولُ بعضِ المكلّفينَ إلى النارِ في البدايةِ ثمّ خروجُهُم منها ودخولُهم الجنّة ، يتنافى مع مفهومِ الخلودِ الذي يعني استمراريّةَ الوجودِ للشيءِ – دونَ انقطاعٍ – بلا نهاية .. وبالتالي فالذي دخلَ النارَ ثمّ خرجَ منها لا يمكنُ وصفُ وجودِهِ فيها بالخلود ، أو اعتباره خلوداً تُستثنى منه مرحلةُ ما بعدَ الخروج .. وكذلك الأمرُ بالنسبةِ للذي تأخَّرَ دخولُهُ إلى الجنّةِ ، فلا يُمكنُ استثناءُ تأخّرِهِ من الخلودِ ، لأنّ هذا الاستثناءَ انقطاعٌ يُناقِضُ مسألةَ الخلودِ من أساسِها ..
[ 9 ] – في الصورةِ القرآنيّةِ ( فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) ، لو تمَّ سحبُ العبارةِ القرآنيّةِ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) على الاستثناءِ الزمنيِّ للخلودِ ، لتنافى ذلك مع منطقِ الاستثناءِ ذاتِهِ .. فمن المعلوم أنّ المُستَثنى هو – بشكلٍ عامٍّ – الجزءُ الأقلُّ من المُستثنى منه ..والمستثنى هنا هو الخلودُ بكامِلِهِ ما عدا فترة اللبثِ المحدودةِ في النارِ ( حسب تفسيرِهِم ) ، وهذا يُكوِّنُ معظمَ المستثنى منه ، لأنّ الخلودَ لانهائيٌّ ، ومهما حُذِفَ من اللانهائيّ يبقى لا نهائيّاً .. فهل يُعقَلُ أن يكون المُستثنى لانهائيّاً ، في الوقتِ الذي يُفترَضُ فيه أن يكونَ الجزءَ الأقلَ ، أو – على الأقلّ – الجزءَ المحدودَ ؟!!! ..
[ 10 ] – الآيةُ الكريمةُ التاليةُ ، تؤكّدُ حقيقةَ ما نذهبُ إليه ..
( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) [ الأنعام : 6/128 ] ..
فالعبارةُ القرآنيّةُ ( إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ) تقعُ بين عبارتين ، تصوِّرُ كلٌّ منهما خطاباً مباشراً .. العبارةُ السابقةُ لها ( قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا ) تصوّرُ خطاباً مباشراً إلى الكافرين ( وهم في الموقفِ ) الذين يستحقّونَ الخلودَ في النارِ .. والعبارةُ التاليةُ لها ( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ، تصوّرُ خطاباً مباشراً إلى الرسول  ولكلِّ مؤمنٍ مستمعٍ لآياتِ اللهِ تعالى ..
وبالتالي فالعبارةُ القرآنيّةُ ( إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ) ، تتعلَّقُ بالعبارةِ التي تسبقُها تعلُّقَ تبيانٍ لماهيّة الخلودِ في النارِ .. وتتعلّقُ بالعبارةِ التي تليها تعلُّقَ النتيجةِ بمقدّمتِها ، فمشيئةُ اللهِ تعالى لهذا الخلودِ ، هي نتيجةُ إحاطةِ حكمةِ اللهِ تعالى بجعلِ الكافرينَ خالدينَ في النارِ ، ونتيجةُ علمِهِ جلّ وعلا بحقيقةِ استحقاقِ هؤلاءِ لهذا الخلودِ ..
[ 11 ] – العبارةُ القرآنيّةُ ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) في الصورةِ القرآنيّةِ ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) ، هي تفصيلٌ وتبيانٌ للعبارةِ القرآنيّةِ التي تسبقُها ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ..
إنّ المشيئةَ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) هي – كما رأينا في النظريّة الثانية ( القَدَر ) – تسخيرُ الأسبابِ المادّيّةِ ( الفعل ) لتحقيقِ المُراد ، وهذا ما تنطقُ به العبارةُ القرآنيّةُ ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) .. وبالتالي فالعبارةُ القرآنيّةُ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) تصوّرُ لنا حيثيّاتِ دوامِ الخلودِ ، المرافقِ لدوامِ سماواتِ الآخرةِ وأرضِها ، ولا تعني – أبداً – استثناءَ بعضِ الداخلينَ إلى النارِ، ولا تعني – أبداً – استثناءً من زمنِ الخلودِ في النارِ .. وهذا ما رأيناه في النقاطِ السابقة ..
[ 12 ] – العبارةُ القرآنيّةُ ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) في نهايةِ الصورةِ القرآنيّةِ ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ، تعني عطاءً غيرَ منقطعٍ وغيرَ منقوصٍ .. وهي ترتبطُ بجميعِ عباراتِ الآيةِ الكريمةِ التي تنتمي إليها .. فلا يستطيعُ أحدٌ أن يُبرهنَ بأنّها لا تتعلّقُ بالعبارةِ التي تسبقُها ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ..
وإذا نظرنا إلى العبارةِ القرآنيّةِ ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) من منظارِ العبارةِ القرآنيّةِ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) .. فكيف يكونُ النقصانُ من الخلودِ والانقطاعُ عن جزءٍ منه ( حسب تفسيِر الذين ذهبوا إلى أنّ كلمةَ إلاّ استثناءٌ ) عطاءً غيرَ منقطعٍ وغيَر منقوصٍ ؟ !!! ..
.. وهكذا نرى أنّ العبارةَ القرآنيّةَ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ليستْ استثناءً ، لا من زمنِ الخلودِ ، ولا من أهلِ النارِ ، ولا من أهلِ الجنّةِ .. وإنّما تدلُّ على أنّ الخلودَ – سواءٌ لأهلِ النارِ أم لأهلِ الجنّةِ أم لسماواتِ الآخرةِ وأرضِها – لا يكونُ إلاّ بمشيئةِ اللهِ تعالى ، وتحتَ قيّوميّتِهِ جلّ وعلا ..
إذاً تقديرُ الصورةِ القرآنيّةِ ( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) .. أنّ خلودَ أهلِ النارِ في النارِ ، هو خلودٌ دائمٌ ، لأنّ السماواتِ والأرضَ بعد أن تُبدّلا في الآخرةِ دائمتان لا تفنيان .. وهذا الدوامُ والخلودُ ما كان ليكونَ إلاّ بمشيئةِ اللهِ تعالى ، فحيثيّاتُ عدمِ الفناءِ ليستْ نابعةً من ذاتِ الجنّةِ ، ولا من ذاتِ النارِ ، ولا من ذاتِ من فيهما ، إنّما هي نتيجةُ تسخيرِ أسبابِ هذا الخلودِ لتحقيقِ مُرادِ اللهِ تعالى بدوامِ هذا الخلودِ .. وكذلك الأمرُ في تقديرِ الصورةِ القرآنيّةِ ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)..
وفي المقابلةِ بين العبارةِ القرآنيّةِ ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) وبينَ العبارةِ القرآنيّةِ ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ، بيانٌ إلهيٌّ يصوّرُ لنا الفارقَ بين مفهومِ مشيئةِ اللهِ تعالى في الدنيا ، وبينَهُ في الآخرةِ ..
إنّ مشيئةَ اللهِ تعالى في الدنيا هي تسخيرُ اللهِ تعالى للأسبابِ ، لتحقيقِ مُرادِ اللهِ تعالى ( الإرادة الكونيّة ) ، ولتحقيقِ مُرادِ البشرِ [ كما رأينا في النظريّة الثانية ( القدر ) ] .. وإنّ هذه الأسبابَ مسخّرةٌ للمؤمنين والكافرين على حدٍّ سواء ، وبالحيثيّاتِ ذاتِها .. بينما مشيئةُ اللهِ تعالى في الآخرةِ تختلفُ بأن تكونَ مسخَّرة ً لإرادةِ الله تعالى الكونيّةِ بالنسبةِ لأهلِ النارِ ، دون أن ترتبطَ بإرادتِهم أبداً ، ودون أن تفعلَ الأسبابُ بين أيديهم .. وقد رأينا [ في النظريّة الثانية ( القدر ) ] كيف أنّ أهلَ النارِ لا يملكون سوى إرادة الخروجِ من النار ، ولا يملكون أيَّ مشيئة ..
ولذلك فمشيئةُ اللهِ تعالى – بالنسبةِ لأهلِ النار – تعني فِعْلَ الله تعالى وتسخيرَهُ للأسبابِ بحيث تُحقِّقُ مُرادَ اللهِ تعالى في عدمِ فناءِ النارِ ، وهذا ما تصوّرُهُ الصورةُ القرآنيّةُ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) .. ولا تعني – أبداً – عطاءً من اللهِ تعالى لأهلِ النارِ بأن يُسخِّرَ الأسبابَ بين أيديهم ، كما كانَ الأمرُ في الحياةِ الدنيا ..
بينما مشيئةُ اللهِ تعالى بالنسبةِ لأهلِ الجنّةِ ، إضافةً إلى أنّها تعني تحقيقَ مُرادِ اللهِ تعالى في عدمِ فناءِ نعيمِ الجنّةِ ، فإنّها تعني عطاءً من اللهِ تعالى لأهلِ الجنّةِ بأن تُصبحَ إرادتُهم مشيئةً دون بذلِ أيِّ جهدٍ ، بحيث يزولُ الفاصِلُ بين إرادتِهم وما يشاؤون ، فإرادتُهم دائماً مشيئة ..
.. هذه الحقيقةُ نراها في الارتباطِ بين العبارتين القرآنيّتين المتتاليتين في الصورةِ القرآنيّةِ ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ .. عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) .. فمشيئةُ الدنيا – بالنسبةِ للإنسان – عطاءٌ منقوصٌ ، لأنّها تحتاجُ إلى العملِ بالأسباب .. بينما مشيئةُ الآخرةِ بالنسبةِ لأهلِ الجنّةِ ، هي – ضمنَ إطارِ مشيئةِ اللهِ تعالى – عطاءٌ غيُر منقوصٍ ..

منقول 

=======================================
معَاييرُ نقدِ المتن عند المُحدِّثين 

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

المقدمة

يعدُّ ما بينَ القرن الثَّاني إلى الرَّابع عصرًا ذهبيًا للسنة النبوية، فقد جُمعت المتون ودونت المدونات، وبرزت علوم الحديث الكثيرة، وسطع نجم كثيرٍ من المحدثين والنقاد مثل سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ومالك بن أنس ويحيى القطان، ومن جاء بعدهم من أمثال يحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ومسلم والعقيلي وابن حبان والدارقطني، وغيرهم من العلماء الأفذاذ الذين اشتغلوا بالحديث دراسةً وتمحيصًا ونقدًا، وكان هذا العلم واحدًا من العلوم التي أبانت عن العقلية الفذة للصَّحابة ومن تبعهم، فهو العلم الوحيد الذي يهتمُّ بالسند وتمحيصه وتدقيقه حتى يوصل كلامًا من نقطة إلى أخرى ولو كان بين النقطتين مئات السنوات! فأنَّى اتجهت يمنةً ويسرةً في سائر الأديان ستجدُ النُّصوص مبتورة مقطوعة عن أُصولها، فتجد نصوصًا منسوبة إلى المسيح دون أسانيد، وكذلك في الديانات الأخرى، بل وفي كل أمة تجد أقوالًا تُنسب لمفكريها دون أسانيد، إلا أمة الإسلام التي تميزت بهذا العلم الشريف، حتى يقول المستشرق الألماني (أشبره نكر): “إن الدنيا لم تر ولن ترى أمة مثل المسلمين، فقد درس بفضل علم الرجال الذي أوجدوه حياة نصف مليون رجل“([1])، ولم تقف إبداعات المحدثين في نقد السند فحسب بل تجاوز ذلك إلى نقد المتن وهو ما نحن بصدد الحديث عنه.
تمهيد

اتَّهم المستشرقون المحدِّثين بأنَّهم أغفلوا نقد المتن، وأنَّهم كلما صحَّ سند قبلوه ولو كان المتن أبعد ما يكون عنِ العقل! وتبعهُم على ذلك الحداثيُّون فراحوا يلقون التُّهم جُزافًا دون بيَّنة أو برهان، وادعوا أنَّ المحدثين لم يكترثوا بنقدِ المتن، وإنَّما كانَ جلُّ عملهم هو نقد السند فحسب، وفي ذلك يقول أحمد أمين: “وقد وضَعَ العلماء للجرح والتعديل قواعد ليس هنا محل ذكرها؛ ولكنَّهم -والحق يقال- عنوا بنقد الإسناد أكثر مما عنوا بنقد المتن، فقلَّ أن تظفر بنقدٍ من ناحية أن ما نُسب إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يتفق والظروف التي قيلت فيه، أو أنَّ الحوادث التاريخية الثابتة تناقضه”([2])، والنتيجة أن الحداثيين يريدون أن يفعلوا -بزعمهم- مالم يفعله المحدِّثون، فهناك عشرات بل مئات الأحاديث التي لا تصح في نظر الحداثيين وقد صحَّحها المحدثون!، والشيء الوحيد الذي ينطلقون منه إلى هذه النتيجة البالغة الأهمية أنَّ المحدِّثين ما نقدوا المتون والحداثيُّون يريدون فعل ذلك، يقول خليل عبدالكريم: “نحن لا نقوم الأحاديث بالميزان الذي كان يمسكه علماء الجرح والتعديل، إنَّ لنا مقياسًا مغايرًا”([3])، وقد ناقشنا هذه الدَّعوى، وبينَّا اهتمام المحدِّثين بنقد المتن كما بينَّا سمات هذا النَّقد في ورقةٍ سابقة([4])، قلنا فيها بأنَّ هذه دعوى خالية من الدَّليل والبرهان، بل لا يقولها إلا جاهل بالتراث الإسلامي الضخم في الحديث أو متجاهل له مآرب أخرى.

أمَّا في هذه الورقة فإنَّنا نعرج على قضية أخرى مهمة، وهي: المعايير التي حاكموا إليها متون الحديث، فهم حين نقدوا المتون أرجعُوها في نقدِهِم إلى مجموعةٍ من المعايير بناءً عليها نقدوا تلكَ المتُون، وهذا يؤكِّد لنا أنَّ المحدثين لم يكتفوا بنقد السَّند بل نقدوا المتن أيضًا، وإظهار نقد المحدِّثين للمتن يربك الحداثيين الذين يرمونهم بهذه التُّهمة، فهدفنا من الورقة السَّابقة بيان أنَّ المحدثين قد اعتنوا بنقد المتن، وهدفنا من هذه الورقة بيان المعايير التي استندوا إليها في ذلك النقد.

وقبل أن نبدَأَ بسرد المعايير التي اعتمد عليها المحدثون في نقد بعض المتون أنبِّه على تنبيهات مهمة:

1/ أن نقد المتن تابعٌ لنقد السند، فليس الأصل عند المحدثين هو نقد المتن إلا ما كان واضحًا أنه لا يمكن صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم، بل لا تجد حديثا ضعفه المحدثون بالنظر إلى متنه إلا وتجد الخلل في سنده ظاهر! يقول عبدالرحمن المعلمي: “لا ريب أن في ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار ما يرده العقل الصريح، وقد جمع المحدثون ذلك وما يقرب منه في كتب الموضوعات، وما لم يذكر فيها منه فلن تجد له إسناداً متصلاً إلا وفي رجاله ممن جرحه أئمة الحديث رجل أو أكثر”([5])، ورغم ذلك فقد اهتم العلماء بنقد المتن ولم يتركوه، بل ألفوا فيه مؤلفات عديدة، بل رأى علماء الحديث أن الحديث وإن صحَّ سنده لا يوجب ذلك صحة المتن!

يقول ابن حجر رحمه الله: “فائدة مهمة عزيزة النقل، كثيرة الجدوى والنفع، وهي من المقرر عندهم أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن، إذ قد يصح السَّند أو يحسن الاجتماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط دون المتن لشذوذ أو علة([6])، وأمَّا ابن الجوزي رحمه الله فقد وضع كتابًا كاملا في الموضوعات، وبين أن الوضع لا يختص بالسند فقط وإنما له علاقة كبيرة بالمتن، يقول رحمه الله: “وقد يكون الإسناد كلُّه ثقات، ويكون الحديث موضوعًا أو مقلوبًا، أو قد جرى فيه تدليس، وهذا أصعب الأحوال ولا يعرف ذلك إلا النُّقاد”([7])، والوضع عند الحداثيين مختلف أشد الاختلاف! فإن الحداثيين حين ينطلقون إلى نقد الحديث بنقد المتن فإنهم أولا يخترعون ضوابط لم تكن موجودة عند المحدثين وهم أهل الصنعة، وهم ثانيًا يفصلون بين السند والمتن فنظرهم متجهٌ فقط إلى المتن، دون نظرٍ إلى السند، ودونَ جمعٍ بين تلك الأحاديث والنصوص الأخرى!

2/ أنَّ النقد عند الصحابة والمحدثين من بعدهم كان للسند والمتن، وليس للمتن وحده، أو للسند وحده، فمن حسنات طريقتهم في نقد الحديث أنَّهم جمعوا بين نقد السند والمتن، بخلاف الحداثيين كما بينَّا.

3/ نقد السند في عهد الصحابة لم يكن موجودًا إذ لم يكن هناك سند وكل الصحابة عدول، فكان الصحابة في نقد الأحاديث يعتمدون على التثبت من الرواية بإتيان شاهد، أو باستحلاف وما شابه ذلك، وكان الغالب فيهم نقد بعض المتون نظرًا لما ثبت عندهم من نصوصٍ أخرى ظنوها معارضة للنَّص الذي سمعوه، ومن ذلك بعض استدراكات عائشة رضي الله عنها على الصحابة التي جمعها غير واحد، منهم الإمام بدر الدين الزركشي في كتابه (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة).

4/ أنَّ النقد عند المحدثين كان ضمن منظومة متكاملة من علم الحديث، ولم يكن النقد من أجنبيٍّ عن العلم، وهذه نقطة مهمة جدا لأن هناك من يستغل حالة النقد الموجودة عند المحدثين لتمرير مشاريع النقد التي يتبنونها هم، والفرق بين الحالتين أنَّ النقد الذي يوجهه الحداثيون ليس موجها من متخصص في العلم، ولا مطلع عليه، بل ويأتي بعضهم بطوام حين يتحدثون عن علوم الحديث([8])، أما المحدثون فعرفوا نور النبوة، وعاشوا مع كلمات النبي صلى الله عليه وسلم وحركاته وسكناته، فلا يمكن أن يدخل هذا الباب كل أحد مالم يكن متخصصًا فيه، وكذلك جمع المحدثين بين السند والمتن، والنظر في منظومة علم الحديث كاملا من حيث الجمع بين الأحاديث، ومعرفة الشاذ والمعلول ومالا يكون كذلك، والتثبت من السند قبل المتن، بينما اكتفى الحداثيون بتوجيه أدواتهم النقدية على المتن فقط مما أخرج لنا مشاريع حداثي تضعف أحاديث صحيحة ثابتة بل متفق على صحتها!

5/ أنَّ المحدثين لا يسارعون إلى تضعيف الأحاديث من مجرد النَّظر إلى المتن إلا ما كان واضح الدلالة على ذلك، كما قيل لشعبة: “من أين تعلم أن الشيخ يكذب؟ قال: إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها، علمت أنه يكذب “([9]) وإذا ثبتت صحَّة السند فإنهم ينظرون مليًّا في المتن قبل رده، ولأجل ذلك صنف العلماء كتب مختلف الحديث ومشكل الحديث لإزالة التعارض المتوهم بين النصوص، فهم إذن لا يردون الأحاديث بمجرد توهم معارضة، على عكس الحداثيين الذين يتكئون على هذا المعيار ليردوا كل مالم يرد في القرآن وليس ما خالفه فقط، وكذلك بعكس الحداثيين الذين يذكر بعضهم أن كل حديث ينص على طاعة الحكام والصلاة خلف كل بر وفاجر موضوع!([10]) هكذا بكل بساطة.

5/ نقد المتن لا يعني بالضرورة تضعيف الحديث بسببه، فقد يكون مصحَّفًا فيعدل، أو مدرجا فيعرف، كما أنني في هذه الورقة لا أقصد تصحيح النقدات التي وجهها المحدثون وخلافهم في بعضها، ولكن مقصدنا هو الوقوف على نقد المحدثين والمعايير التي إليها حاكموا الأحاديث لندفع عنهم فرية عدم الاهتمام بنقد المتن.

6/ اهتم العلماء ببيان معايير نقد المتن عند المحدثين، ومن ذلك: ومقاييس نقد متون السنة للدكتور مسفر عزم الله الدميني، وذكرها أيضا محمد الجوابي في جهود المحدثين في نقد المتن (456- 496)، وذكر طرفًا منه الدكتور نجم خلف في نقد المتن بين صناعة المحدثين ومطاعن المستشرقين (30- 36)، كما أنَّ ابن القيم رحمه الله وضع كتابه الفذ في بيان المعايير التي بها رد علماء الحديث بعض الأحاديث وعنوانه: ” المنار المنيف في الصحيح والضعيف” فقد ذكر أربعًا وأربعين قاعدة، ومثَّل لها بمئتين وسبعين حديثًا بيَّن وجه بطلانها من مجرد نقض المتن ولم يعرج على نقد السند.



المعايير التي حاكم إليها المحدثون الأحاديث:

أولًا: مخالفة القرآن الكريم.

ذكر الخطيب البغدادي كيفية معرفة ضعف الحديث فقال: “والأخبار كلها على ثلاثة أضرب، فضرب منها يعلم صحته، وضرب منها يعلم فساده، وضرب منها لا سبيل إلى العلم بكونه على واحد من الأمرين دون الآخر… وأمَّا الضرب الثاني وهو ما يعلم فساده فالطريق إلى معرفته أن يكون ممَّا تدفع العقول صحته بموضوعها، والأدلة المنصوصة فيها، نحو الإخبار عن قدم الأجسام ونفي الصانع وما أشبه ذلك، أو يكون مما يدفعه نص القرآن, أو السنة المتواترة أو أجمعت الأمة على رده أو يكون خبرًا عن أمر من أمور الدين يلزم المكلفين علمه وقطع العذر فيه”([11])، فمخالفة القرآن ممَّا رد به المحدثون بعض النصوص التي نُقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي إسحاق، قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفا من حصى، فحصبه به، فقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق: 1]([12])، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه هنا يرى أن قول فاطمة بنت قيس مخالفٌ للآية، وكما قلنا سابقا لا يعنينا هنا تصحيح قول على آخر وإنما بيان وقوع نقد المتن عند المحدثين وأولهم الصحابة الكرام.

ومن أمثلة ذلك أيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: “ولد الزنا أشر الثلاثة”([13]) فقد استنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها وقالت: يرحم الله أبا هريرة أساء سمعًا فأساء إجابة… لم يكن الحديث على هذا إنَّما كان رجل يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أما إنه مع ما به ولد زنى “، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” هو شر الثلاثة “([14])، قال الطحاوي: “فكان في هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعٌ لما في حديث أبي هريرة الذي رويناه قبله، وكان الذي في هذا الحديث أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم مما في حديث أبي هريرة؛ لأن الله قال في كتابه العزيز: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}”([15])، ونقد ابن عباس هذا الحديث أيضًا فقال: “لو كان شر الثلاثة ما استؤني بأمه أن ترجم حتى تضعه”([16])، وجاء هنا نقد المتن استنادا إلى هذه الآية.

ومن أمثلة ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “سب أصحابي ذنب لا يغفر” قال ابن تيمية رحمه الله: “وهذا الحديث كذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يروه أحدٌ من أهل العلم، ولا هو في شيءٍ من كتب المسلمين المعتمدة، وهو مخالفٌ للقرآن لأن الله قال {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}([17]).

ومن أمثلة ذلك أيضًا: حديث عبد الله بن أبي مليكة، قال: توفيت ابنة لعثمان بن عفان بمكة، قال: فجئنا لنشهدها، قال: فحضرها ابن عمر، وابن عباس، قال: وإني لجالس بينهما، قال: جلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: وهو مواجهه، ألا تنهى عن البكاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “إن الميت ليعذب ببكاءِ أهله عليه”، فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدث، فقال: صدرت مع عمر من مكة حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل شجرة، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ فنظرت، فإذا هو صهيب، قال: فأخبرته، فقال: ادعه لي، قال: فرجعت إلى صهيب، فقلت: ارتحل فالحق أمير المؤمنين، فلما أن أصيب عمر، دخل صهيب يبكي، يقول: وا أخاه وا صاحباه، فقال عمر: يا صهيب أتبكي علي؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه”، فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك، لعائشة فقالت: يرحم الله عمَر، لا والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد، ولكن قال: “إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه” قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]، قال: وقال ابن عباس عند ذلك: والله {أضحك وأبكى} [النجم: 43]، قال ابن أبي مليكة: فوالله ما قال ابن عمر من شيء([18])، وفي هذا الحديث نقدت عائشة رضي الله عنها هذا المتن استنادا إلى قوله تعالى (ولاتزر وازرة وزر أخرى)، وبغض النظر عن صحة اعتراض عائشة رضي الله عنها من عدمه فقد اختلف فيه العلماء إلا أنَّه دليل صريح على موضوعنا وهو اعتماد المحدثين وعلى رأسهم الصحابة على القرآن الكريم في نقد بعض المرويات.

ومن أمثلة ذلك أيضًا: حديث عمرو بن دينار، قال: قلت لجابر بن عبد الله إنهم يزعمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم “نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر” قال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى ذلك البحر يعني ابن عباس رضي الله عنهما، وقرأ {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} الآية”([19]) ويتضح من خلال النص أن ابن عباس رضي الله عنه صدر منه نقد للمتن لاعتبار هذه الآية، وأيضًا نحن لا نبحث عن ترجيح المسألة وإنما يكفينا الإشارة إلى النقد الصادر من الصحابي الكريم.

وليس الصحابة وحدهم من فعلوا ذلك بل من جاء بعدهم من المحدثين اتبعوا نهج الصحابة في ذلك، ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها وفيه: “ذهبت لقبر أمي آمنة فسألت الله أن يحييها فأحياها فآمنت بي وردها الله عزوجل”([20]) قال فيه ابن الجوزي:

هذا حديثٌ موضوع بلا شك والذي وضعه قليل الفهم عديم العلم، إذ لو كان له علم لعلم أن من مات كافرًا لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة، لا بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع، ويكفي في رد هذا الحديث قوله تعالى: (فيمت وهو كافر)([21]) فهنا إعمال لنقد المتن من خلال عرضه على القرآن الكريم وبيان مخالفته له.

ثانيًا: مخالفة السنة الصريحة الصحيحة

مما يستدل به المحدثون على ضعف الحديث مخالفته الصريحة للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان استخدام هذا أقل من استخدام المعيار الأول نظرا لخفاء بعض الأحاديث على بعض، أو لعدم جزمه بالمعارضة لإمكانية الجمع بوجه من الوجوه، يقول مسفر الدميني: “وإذا كان منهجهم في عرض الأحاديث على القرآن متسمًا بالوضوح لاتفاقهم على حكم القرآن ووثوقهم به، إلا أن منهجهم في عرض متون الأحاديث بعضها على بعض لم يكن بذلك القدر، فقد كانت لهم كثير من المناقشات حول بعض الأحكام، واختلاف في وجهات النظر، وتعدد في طرق الاستدلال من الكتاب والسنة، وقليل من تلك المسائل هو الذي أصدروا فيه الحكم الفصل وقبل به الجميع”([22])، أما أمثلة ذلك:

فقد روى مسلم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي بكر، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه، يقص، يقول في قصصه: “من أدركه الفجر جنبًا فلا يصم”، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث – لأبيه – فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه، حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا من غير حلم، ثم يصوم” قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول: قال: فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله، قال: فذكر له عبد الرحمن، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم، قال: هما أعلم، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس، فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فرجع أبو هريرة عمَّا كان يقول في ذلك”([23]) وهذا نقدٌ واضح للمتن من خلال نصوص نبوية أخرى كان راويها أكثر ثبوتية في مثل هذه المواضيع، فاطلعت عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم مالم يطلع عليه أبو هريرة رضي الله عنه، خاصة وأنه ليس راويًا مباشرًا للحديث.

ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما ذكره الطحاوي في شرح مشكل الآثار عن عبيد بن رفاعة بن رافع، عن أبيه، قال: ” إني لجالس عن يمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ جاء رجل، فقال: يا أمير المؤمنين: هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل من الجنابة برأيه، فقال عمر: ” اعجل علي به ” فجاء زيد، فقال عمر: ” بلغ من أمرك أنك تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيك”، فقال له زيد: “أما والله يا أمير المؤمنين ما أفتيت برأيي، ولكني سمعت من أعمامي شيئًا فقلت به”، فقال: “من أي أعمامك؟” فقال: “من أبي بن كعب، وأبي أيوب، ورفاعة بن رافع”، فالتفت إلي عمر، فقال: “ما يقول هذا الفتى؟” قلت: “إن كنا لنفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا نغتسل”، قال: “أفسألتم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟” فقلت: “لا”، فقال: علي بالناس، فأصفق الناس أن الماء لا يكون إلا من الماء، إلا ما كان من علي ومعاذ عليهما السلام، فقالا: “إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل”، فقال أمير المؤمنين: “لا أجد أحدا أعلم بهذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه”، فأرسل إلى حفصة، فقالت: “لا علم لي”، فأرسل إلى عائشة، فقالت: ” إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل”، فتحطم عمر، وقال: لئن أخبرت بأحد يفعله ثم لا يغتسل لأنهكنه عقوبة “([24])، وهذا أيضًا فيه رد الحديث بعضه إلى بعض، فإن زيدًا لم يفت برأيه كما صرح بذلك ولكن بما سمعه، إلا أن الأصح والأثبت هو ما روته عائشة رضي الله عنها لأنها أعلم بهذه الحوادث من زيد، فرجع الصحابة إلى قولها.

ومن الأحاديث التي رويت وهي مخالفة لصريح السنة ما قاله ابن تيمية رحمه الله قال: “وكذلك قوله: (وسد الأبواب كلها إلا باب علي) فإن هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة، فإنَّ الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه: “إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا؛ ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر([25]) “([26]).

ومن تطبيقات عرض الأحاديث بعضها على بعض خرجت لنا علوم حديثية كثيرة كالإدراج والاضطراب والتصحيف والتحريف والقلب والشاذ والمعلول وغيرها وقد ذكرناها في ورقة سابقة.

ثالثًا: النظر العقلي.

قد وردت أحاديث انتقدها بعض الصحابة رضوان الله عليهم بالنظر العقلي، وينبغي أن يعلم أن ذلك ليس لمجرد النظر العقلي وإنما يعضد الدليلُ العقلي في ذلك الدليلَ النقلي الثابت عند الصحابي، فيبرز الانتقاد العقلي لما استقر عنده من الدليل النقلي، فالمعارضة العقلية لدى الصحابة موجودة في نقد المتون لكنها تبع لثبوت نصوص معارضة عندهم فيعضدون ذلك بالنظر العقلي([27]).

فالأمر أن النظر العقلي كان موجودًا عند المحدثين، وأعملوه بالتوافق مع نقد السند، يقول الخطيب البغدادي: “والأخبار كلها على ثلاثة أضرب؛ فضرب منها يعلم صحته , وضرب منها يعلم فساده , وضرب منها لا سبيل إلى العلم بكونه على واحد من الأمرين دون الآخر… وأما الضرب الثاني , وهو ما يعلم فساده فالطريق إلى معرفته أن يكون مما تدفع العقول صحته بموضوعها”([28]).

ومن أمثلة ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ من غسَّل ميتا اغتسل، ومن حمله فليتوضأ”([29]) هذا الحديثُ قد عارضتهُ عائشة رضي اللهُ عنها بقولها: “سبحان الله! أَمواتُ المسلمين أَنجاسٌ؟! وهل هو إلَّا رجلٌ أَخذ عودًا فحمله؟!”(([30])، وهنا انتقدت عائشة رضي الله عنها حديث أبي هريرة بالنظر العقلي.

ومن أمثلة ذلك أيضًا: حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الوضوءُ ممَّا مسَّت النَّار، ولو من ثورٍ أقط”، فقال لهُ ابن عباس رضي الله عنه: يا أبا هريرة، أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ فقالَ أبو هريرة رضي الله عنه: يا ابن أخي، إذا سمعتَ حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فلا تضرب له مثلًا([31])، وهذه اعتراضات عقلية من الصحابة الكرام؛ لكن كما بينا وقلنا: هي لم تكن اعتراضات عقلية خالصة، وإنما هو توظيف لنصوص شرعية أخرى عارضت النص النبوي المنتقد، وقد سبقت الإجابات عن هذه المعارضات العقلية في ورقة مستقلة فلتراجع([32]) .



رابعًا: بعده عن نور النبوة.

الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 351)

تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره فإن خالفه في الماء والصلابة علم أنه زجاج، ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاما يصلح أن يكون من كلام النبوة



وهذا المعيار من أدقِّ المعايير التي لا يمكن لأي أحد الخوض فيه إلا بعد أن يفني عمره في مدارسة الحديث وتذوق ألفاظه، فمن الأحاديث ما لا تحمل نور النبوة، وألفاظها ركيكة لا يمكن أن يقولها أفصحُ البشر صلى الله عليه وسلم، ويعرف ذلك من طال اشتغاله بالحديث، واختلطت حياته بسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم قراءةً وتدوينًا وتحريرًا وبحثًا، ومن أمثلة ذلك حديث: “لو كان الأرز رجلًا لكان حليمًا ما أكله جائع إلا أشبعه”([33]). قال فيه ابن القيم رحمه الله: “فهذا من السَّمج البارد الذي يصان عنه كلام العُقلاء فضلًا عن كلام سيِّد الأنبياء”([34]) .

ومن امثلة ذلك أيضًا حديث: “الباذنجان لما أكل له” وحديث: “الباذنجان شفاء من كل داء”([35])

قال فيه ابن القيم رحمه الله: “قبَّح الله واضعهما فإن هذا لو قاله يوحنس أمهر الأطباء لسخر الناس منه، ولو أكل الباذنجان للحمى والسوداء الغالبة وكثير من الأمراض لم يزدها إلا شدة، ولو أكله فقير ليستغني لم يفده الغنى، أو جاهل ليتعلم لم يفده العلم”([36]).



هل كل أحدٍ يمكنه أن ينقد المتن؟

إذا عرَضنا معايير نقد المتن عند المحدثين فإنَّنا نقصد بذلك عرض وجود النقد عندهم عكس ما اتهمهم به المستشرقون وتبعهم على ذلك الحداثيون، ولكن لا يمكن لكل أحد أتى بعد عصر المحدثين أن ينقد المتن فحسب ويرد به الأحاديث، وهو ما بيناه سابقا من الفروق بين منهج المحدثين والحداثيين من أنَّ المحدثين لا يكتفون بنقد المتن بل يجمعون إليه نقد السَّند بخلاف الحداثيين الذين ينقدون المتن فقط دون معيار واضح سليم، ولذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله: “وقد يكون الإسناد كله ثقات ويكون الحديث موضوعا أو مقلوبا أو قد جرى فيه تدليس ى وهذا أصعب الأحوال ولا يعرف ذلك إلا النقاد“([37]).

والعلماءُ المحدِّثون ممَّن نقدوا المتن جمعوا خصائص عديدة من أهمِّها:

1/ الغزارة المعرفية بسنَّة النَّبي صلَّى الله عليه وسلم، والتضلُّع منها، وهذا لا يتحقَّق إلا بكثرة المطالعة والعيش مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومدارسة حديثه حتى تختلط السُّنة بحياته وأنفاسه وحركاته وسكناته، فيصير عنده ملكة قوية يستطيع من خلالها أن يدرك ضعف المتون، يقول ابن دقيق العيد: “الحادي والعشرون الموضوع من الحديث أي المختلق: وأهل الحديث كثيرًا ما يحكمون بذلك باعتبار أمورٍ ترجع إلى المروي وألفاظ الحديث، وحاصلُه يرجع إلى أنَّه حصلت لهم لكثرة محاولة ألفاظ الرَّسول صلى الله عليه وسلم هبة نفسانية، أو ملكة يعرفون بها ما يجوز أن يكون من ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز أن يكون من ألفاظه”([38])، وقال ابن القيم رحمه الله: “وسئِلت: هل يُمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟

فهذا سؤالٌ عظيمُ القدر وإنَّما يعلَم ذلك من تضلَّع في معرفة السُّنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاصٌ شديدٌ بمعرفة السُّنن والآثار ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وهديه فيما يأمر به وينهى عنه ويخبر عنه ويدعو إليه ويحبه ويكرهه ويشرعه للأمة، بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحدٍ من أصحابه.

فمِثل هذا يعرف من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وكلامه وما يجوز أن يخبر به وما لا يجوز ما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبع مع متبوعه، فإنَّ للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلِّدين مع أئمتهم يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم والله أعلم”([39]).

2/ مجالسة أهل الحديث ومدارستهم والسَّماع منهم السنين الطوال حتى يتمكن من أدوات العمل النقدي، قال الحاكم: “ذكر النوع التاسع عشر من علوم الحديث وهو معرفة الصحيح والسقيم، وهذا النوع من هذه العلوم غير الجرح والتعديل الذي قدمنا ذكره، فرب إسنادٍ يسلم من المجروحين غير مخرج في الصحيح فمن ذلك ما … [ذكر ثلاثة أحاديث] ثم قال: ففي هذه الأحاديث الثلاثة قياس على ثلاث مائة أو ثلاثة آلاف أو أكثر من ذلك، إن الصحيح لا يُعرف بروايته فقط، وإنما يُعرف بالفهم والحفظ وكثرة السَّماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علَّة الحديث، فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير، عن علته، ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته”([40]) وقال السخاوي: “فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه، وعلله، ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين.

فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعانُ النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم، وجودة التصور، ومداومة الاشتغال، وملازمة التقوى والتواضع يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النَّبوية، ولا قوة إلا بالله”([41])

3/ الوقوف على الأحاديث التي نقدها المحدِّثون الكبار وصيارفة الحديث حتى يعرف منهجهم وطريقتهم في ذلك، وحتى يقف على الضوابط والقواعد التي استخدمها هؤلاء في نقدهم للرواية.



وأخيرًا: انتهج المحدثون منهجًا علميا وعقليا دقيقا في نقد الأحاديث، أسانيدها ومتونها، وإن رميهم بعدم الاهتمام بنقد المتن ما هي إلى دعوى تفتقد إلى أي دليل أو برهان، وتنهار أمام أدنى بحث علمي، وقد بينا في هذه الورقة المختصرة المعايير التي حاكم إليها المحدثون الأحاديث، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) نقل عنه مصطفى صبري في موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين (4/ 59).
([2]) فجر الإسلام (238).
([3]) الصحابة والمجتمع ( 1/ 343).
([4]) انظر ورقة بعنوان: نقد المتن بين براعة المحدثين وادعاء الحداثيين.
([5]) الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة (ص: 10).
([6]) نقل عنه الصنعاني في توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار (1/ 177).
([7]) الموضوعات لابن الجوزي (1/ 99- 100).
([8]) انظر مثلا نقد حسن حنفي للبخاري في: https://salafcenter.org/3948/
([9]) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي (316).
([10]) انظر تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تُلزم لجمال البنا.
([11]) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (17).
([12]) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (1480).
([13]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (8098).
([14]) شرح مشكل الآثار (2/ 367).
([15]) شرح مشكل الآثار (2/ 368).
([16]) الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة (120).
([17]) مجموع الفتاوى (3/ 290).
([18]) أخرجه مسلم برقم (927).
([19]) أخرجه الحاكم في مستدركه برقم (3236).
([20]) انظر الموضوعات لابن الجوزي (1/ 284).
([21]) الموضوعات لابن الجوزي (1/ 284).
([22]) مقاييس نقد متون السنة (94).
([23]) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (1109).
([24]) شرح مشكل الآثار (10/ 122).
([25]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (467).
([26])منهاج السنة النبوية (5/ 35).
([27]) انظر ورقة بعنوان: “عقلنة النص” على الرابط التالي:
https://salafcenter.org/3531/
([28]) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص: 17)
([29]) أخرجه أحمد (9862)، وأبو داود (3161)، والترمذي (993)، وابن ماجه (1463)..
([30]) أخرجه البيهقي في الكبرى (1472)، وقد ذكر بدر الدين الزركشي أنها قالت ذلك حين بلغها حديث أبي هريرة، فلم يكن حديثا مستقلًّا انظر: الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة (122) .
([31]) أخرجه الترمذي (79) .
([32]) انظر هنا: https://salafcenter.org/3531/
([33]) المنار المنيف في الصحيح والضعيف (54).
([34]) المرجع السابق.
([35]) المنار المنيف في الصحيح والضعيف (51).
([36]) المرجع السابق.
([37]) الموضوعات لابن الجوزي (1/ 99).
([38]) الاقتراح في بيان الاصطلاح (25).
([39]) المنار المنيف في الصحيح والضعيف (43-44).
([40]) معرفة علوم الحديث للحاكم (59).
([41]) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/ 289).
طباعة
3٬966
14 صفر 1441 هـ - 13 أكتوبر 2019 م
11:25 ص
أوراق علمية
اترك تعليقاً
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني *
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
مواضيع مشابهة
ثناء العلماء على الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله
09 جمادى الأول 1442 هـ - 24 ديسمبر 2020 م
إنَّ الدِّينَ عندَ الله الإسلامُ “تفسير وإجابة عن المتشابهات”
05 جمادى الأول 1442 هـ - 20 ديسمبر 2020 م
قاربٌ بلا قاع! (دراسةٌ في المنهج النَّقدي للمتون بين المحدِّثين والحداثيين)
30 ربيع الآخر 1442 هـ - 15 ديسمبر 2020 م
جديد سلف
تغاريد سلف

للاشتراك بالقائمة البريدية
عدد الزيارات : 2895069
هذا الشهر : 106076
اليوم : 2141
المتواجدون الان : 6
مواقع صديقة
جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  آيات ورد فيها "الحساب في الاخرة والدنيا"

      آيات ورد فيها "الحساب في الاخرة والدنيا "       أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْح...